١٦ رجب ١٤٣٠ هـ

هل نحتاج (تربية) وطنية؟

(بقليل تصرف)

من ينظر إلى المجتمعات الأخرى في العالم، ويخرج قليلاً عن دائرة وطنه العربي، يكتشف امر مهم. الا وهو مفهوم المواطنة لدى عامة الناس في بلدانهم. ذلك المصطلح الذي كان يسمع به ولكنه مبهم لديه، لا يعرفه ولم يلمس معناه في مجتمعه. وبمقارنة بسيطه بين ما يجده في ثقافة ونفوس الناس هناك، وبين ما يجده في مجتمعه. يجد أن الوطنية والإنتماء الى الوطن ضعيف في نفوس افراد وطنه وخاصةً الشباب منهم. لذلك انتبهت وزارة التربية والتعليم لهذا الأمر ففرضة تدريس مادة الوطنية على الجيل الناشئ. وطـُلب من والوعاض والمرشدين ان ينشروا هذا المفهوم على عامة الناس.

ولكن المشكلة الحقيقية أن أزمة الوطنية لا تحل بتدريس مادة الوطنية او بمحاضرات نظرية وخطابات الوعظ والارشاد. فالمجتمعات التي لا تشكو من أزمة مواطنة هي تلك التي تطورت تاريخياً بمنظومة ربطت الشخص بكيان الدولة من خلال اكتسابه لحقوق غير قابلة للجدل او المقايضة أدت الى اتصال مع كيان مركب يسمى الوطن حيث يجد فيه الانسان الهوية والامان، وكلاهما ينبثقان عن عملية تراكمية وليس وعظية يوضع لها منهج وتدرس او ارشادية يلقن فيها ابجديات حب الوطن والانتماء اليه.

فغياب مفهوم الوطن حقيقة أنه مشكلة حقيقية ملموسة في السعودية. ورغم محاولات كثيرة لتفعيل مفهوم المواطنة من خلال احتفالات تراثية ومسابقات رياضية ونشاطات اعلامية واعياد وطنية نجد أن المواطنة لا تزال مبهمة مما يدفع وزارة التربية والتعليم لتدريس مادة الوطنية في المدارس ويدفع وزارة الشؤون الاسلامية لتنظيم دورات خاصة هدفها تأهيل الوعاظ بفقهها. ومن الغريب ان الوعاظ الحاليين كانوا في السابق ينفون المواطنة من قاموسهم الفقهي بل أن منهم من يساوي الوطن = بالوثن !! ولكن التغيرات الحالية والازمات الامنية التي تعرضت لها السعودية خلال العقدين السابقين لفتت انتباه البعض الى نقص المواطنة والانتماء.

ولكن ليس بالوعظ تتحقق المواطنة اذ ان لها شروطا وبيئة تنمو فيها بشكل تلقائي وعفوي. وهي ليست بحاجة الى دورات أو مسابقات رياضية أو فريق كرة قدم. ما هي شروطها اذن؟ وكيف تصبح من المسلمات التي لا تحتاج الى جهد أو مؤتمرات؟

من شروطها: توفر فرص النجاح الاقتصادي والامن الشخصي والصحي والتعليمي التي يحصل عليها المواطن كحتمية غير قابلة للجدل أو التوزيع حسب الاهواء. وطالما ظلت هذه الخدمات مرتبطة بمفهوم المكرمات التي تجبى من فوق لظل مفهوم المواطنة ضعيفاً وهشاً. رغم ان بعض الشباب قد ينخرط في احتفالات ما يسمى بالوطن ويهتف باسمه في المجالات الرياضية والتراثية.

كذلك يتطور هذا الضعف في الانتماء الى الوطن عند المجموعات التي لا تزال تتعلق بانتماءات ضيقة كالقبيلة والمنطقة والطائفة. فتجد في هذه الاطارات الصغيرة ما يعوضها عن غياب الحاضن الكبير الذي لم يستوعبها ويستجيب لحقوقها ومطالبها. وقد برزت في السعودية خلال العقود السابقة كل هذه السلوكيات من الإفتخار والإنتماء للقبيله و(مزايين الأبل) والتي تعتبر كلها ردة فعل تلقائية على غياب المواطنة كمفهوم وممارسة تحاول الجهات الرسمية استدراكه عن طريق الوعظ والارشاد فقط دون الانتباه الى المعضلة الحقيقية التي تقف وراء ضعف المواطنة والانتماء.

فمادة الوطنية والمحاضرات قاصرة على احداث نقلة جذرية في الوعي الجماعي اذا لم ترتبط بتحديد دقيق لحقوق المواطن وواجباته في حدود الوطن. هذا التحديد يبقى ايضاً نظرياً ان لم تضمنه المؤسسات الحقوقية (المستقلة) والتي تكون رقيباً على تلك الممارسات. فالتربية المدنية كفيلة بتعريف مجموعة الحقوق والواجبات ولكن ليس الضامن لها، اذ تبقى الضمانة الحقيقية مرتبطة (بالقضاء) وممارساته التي تقف وقفة حيادية في تفعيل هذه الحقوق بل هي من يحول هذه الحقوق الى قرارات ملموسة في حالة الجهل بها او تجاهلها. عندها فقط تصبح المواطنة ممارسة ملموسة لا تحتاج الى تدريب وتأهيل وخطب ويتحول المواطن من شخصية مشكوك في ولائها الى عنصر فعّال في بناء الوطن والحفاظ على ثرواته وخيراته. عندما ترتبط المواطنة بسلسلة الحقوق والواجبات التي يحفظها القضاء المستقل كما في بعض الدول نجد المواطن فيها لا يحتاج الى تنظير في المواطنة او دروس في الانتماء بل هو يعتبر المواطنة امراً تلقائياً فنجده يحترم المساحات العامة ولا يعتدي عليها ويحرص على نظافة بيئته. وعندما يدخل مؤسسات دولته سيجد الاحترام والتقدير والتعامل الحضاري لا (الوساطات) التي تعطل تصريف معاملاته وتشكك في ولائه لوطنه. وهو مؤمن بأن وطنه له وهو لوطنه.

وفقط عندما تعرضت السعودية لمخاطر امنية خلال الاعوام السابقة نجد ان الاهتمام قد انصب على ذلك المصطلح المبهم المسمى بالوطن وحبه بعد غياب طويل مهد لظهور اطروحات تتعارض مع الوطن بل تهدد امنه وسلامة مواطنيه. الوطن ليس بالقضية 'الرومنسية' او بالمنظومة الشعرية او (شرهات) توزع حسب الاهواء والمزاج بل هو سلسلة من الحقوق والواجبات المضمونة قضائياً قد يتغنى به الشعراء وتكتب فيه القصائد لكنه يظل مبهماً طالما انه لم يرتبط بسيادة القانون وينفصل عن الوساطات المتفشية في بلدنا السعودية. عندما تتحقق المواطنة في مفهومها القانوني لن نحتاج بعدها الى عملية تأهيل تزرع في قلوبنا حب كائن خيالي ننسجه في مخيلتنا ونعبر عنه بأسلوب انشائي ركيك لا يصح حتى في موسوعات الأدب والشعر ونتغنى بصوره التي تغيب عنها صور الواقع ونستبدلها بأبراج من الاسمنت والحديد.

المواطنة الحقيقية هي ممارسة قبل ان تكون نظرية او معادلة وهمية تحتاج الى تأصيل شرعي او غير شرعي. لا تنجح هذه الممارسة الا اذا اقترنت بوعي شامل مفاده ان للانسان حقوقا على ارضه وواجبات تجاه مجتمعه عندها فقط نكون بصدد التحول من الولاء للقبيلة او الطائفة الى الولاء للوطن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق